كان الشغل الشاغل للعالم وهو يتابع مشهد الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان عام 2021 هو الإجابة على تساؤل: كيف ستتصرف طالبان؟
كان متوقعاً على نطاق واسع أن الحركة تغيرت ولن تعيد أخطاء الماضي، على الأقل لحاجتها إلى اعتراف المجتمع الدولي. واتحد العالم -رغم انقساماته- لإجبار الحركة على الرضوخ لشروطه، ومن أبرزها إشراك كل المكونات في السلطة، وعدم تطبيق نظام حكم ديني صارم، والسماح بتعليم الفتيات.
تقريباً لم تلتزم الحركة بذلك، فطبقت الحدود الإسلامية والقصاص، وأغلقت دور السينما، واستبدلت بوزارة شؤون المرأة وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ففرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوبات على الدولة الواقعة في وسط آسيا، وجمدت احتياطاتها من العملة الأجنبية البالغة تسعة مليارات دولار.
لم تتخلَ الحركة عن أيديولوجيتها لكن سلوكها تغير بشكل ملحوظ؛ فمكتبها في قطر أبدى مهارات دبلوماسية كبيرة، واستطاع انتزاع اتفاق مع الأمريكيين تسلمت الحركة بموجبه الحكم، وغادرت القوات الأجنبية بلادها بعد 20 عاماً من الاحتلال. بينما كانت طالبان في نسختها القديمة تعتمد على باكستان في التواصل مع العالم الخارجي، وكان سفيرها الوحيد عبدالسلام ضعيف، بلغته الإنجليزية الضعيفة، هو واجهتها الدبلوماسية، والرجل يحكي في مذكراته أنه لم يكن له حول ولا قوة في توجيه دفة الأمور.
ظهر تغير سلوك الحركة أيضاً عند مقارنة موقفها عام 2001 عندما فجرت تماثيل بوذا في منطقة باميان، أبرز الوجهات السياحية في البلاد، واليوم تحرس قوات طالبان تماثيل بوذا والمناطق الأثرية، وهناك خطة لإقامة مركز سياحي يضم أسواقاً للتحف التذكارية على بحيرة باميان.
والتحول الأغرب من كل ما سبق هو خصومة الحركة مع التيار السلفي الأفغاني؛ إذ رصدت تقارير إعلامية وحقوقية شن جهاز الاستخبارات حملة ضد هذا التيار، وإطلاق بعض القادة الطالبانيين على الجماعة السلفية مسمى «رفاق داعش خراسان»، وهذا تحول لم يكن متوقعاً لأن الحركة سبق أن تحالفت مع تنظيم القاعدة وجماعات سلفية أخرى، وكان أبناء هذا التيار في كثير من البلدان ينظرون للحركة بوصفها نموذجاً يمثل تطلعاتهم ورؤاهم، لكن يبدو أنه خلال المعركة الجارية ضد تنظيم داعش لم تستطع طالبان عملياً التفريق بشكل دقيق بين السلفيين المسالمين والدواعش المستترين، رغم نفيها ذلك وتبرئها من هذه التهم.
تعد قضية تعليم الفتيات من أكبر نقاط ضعف الحركة، فبعد وصولها للحكم في أغسطس 2021 منعت الفتيات من الالتحاق بالمدارس بعد الصف السادس الابتدائي، بقرار من زعيم الحركة هبة الله آخوند زادة.
أحدث هذا القرار انقساماً داخلياً؛ فبينما أيده رئيس المحكمة العليا عبد الحكيم إسحاقزاي، عارضه وزير الداخلية سراج الدين حقاني، ووزير الدفاع محمد يعقوب ابن الملا عمر مؤسس الحركة. وقال أحد المسئولين في تصريحات إعلامية:
«إن 99% من أعضاء طالبان، من ذوي الرتب العالية والمتوسطة والمنخفضة، يؤيدون استئناف تعليم الفتيات».
لم تُصدر إمارة طالبان أي فتوى رسمية تُحرِّم تعليم البنات، واستمرت في صرف رواتب المعلمات دون أن تسمح لهم بالتدريس، واستمر تعليم البنات في المدارس الدينية، لكن هناك تلكؤاً شديداً وتسويفاً ومماطلة في الأمر، إذ تتذرع الحركة بحاجتها للوقت لوضع مناهج مناسبة وترتيبات أخرى.
واستقبلت كابل عام 2022، وفداً من منظمة التعاون الإسلامي التي تمثل 57 دولة، بهدف محاولة إقناع الحركة بالسماح للفتيات بالذهاب للمدارس، لكنه غادر دون نتيجة، وبعد أيام أعرب آخوند زاده -الذي رفض مقابلة الوفد- عن استيائه من جهود الضغط الدولية المستمرة.
رغم العزلة الخانقة للدولة واستمرار غياب اعتراف أي دولة بها وعدم حصولها على مقعدها في الأمم المتحدة، فإنه في ظل غياب بديل لطالبان، تم قبولها ضمنياً والتعامل معها باعتبارها الهيئة الحاكمة في أفغانستان.
تسلمت طالبان عشرات السفارات في مختلف البلاد، والجهود لا تزال مستمرة لاستلام البقية. ووسط الانقسام الدولي الذي تَعزز على خلفية الحرب الأوكرانية، تقاربت موسكو وبكين وحلفاؤهما مع الحركة؛ فالصين كانت أول بلد يعيّن سفيراً في كابل العام الماضي (2023)، وفي يناير 2024، قدم السفير الأفغاني أوراق اعتماده للرئيس الصيني، دون اعتراف رسمي، وبالطبع قررت الحركة عدم إثارة موضوع اضطهاد الحزب الشيوعي للمسلمين الإيغور.
ومؤخراً أعلن مبعوث الرئيس الروسي إلى أفغانستان ضمير كابولوف، استكمال تحضيرات إزالة طالبان من قوائم الإرهاب في بلاده، وذلك رغم قلق روسيا من وجود إمارة إسلامية في جوارها، لكن مشروع طالبان محلي، والمصالح تجمع الطرفين.
وفي تطور لافت، استقبل الرئيس الإماراتي محمد بن زايد، وزير الداخلية الأفغاني سراج الدين حقاني الذي لا يزال مطلوباً في الولايات المتحدة مقابل 10 ملايين دولار. وتسعى الإمارات لتعزيز العلاقات مع الحركة، إذ حصلت شركة إماراتية على عقد تأمين المطارات الأفغانية، وتُسير شركتا الطيران الإماراتيتين العربية للطيران وفلاي دبي رحلات إلى مطار كابل الدولي.
بدلاً من تغيير سياستها وانتظار الاعتراف الدبلوماسي، وقعت كابول سلسلة من الاتفاقيات التجارية المربحة مع الدول المجاورة، حتى إنها عينت ممثلين لها في تلك البلدان. وبينما فرضت الولايات المتحدة عقوبات إضافية على طالبان، اختارت دول المنطقة إعطاء الأولوية لأمنها ومصالحها؛ فأعلنت الصين أنها لن تفرض تعريفات جمركية على 98% من الواردات الأفغانية، وقد تُشركها في مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تضم عشرات الدول.
وتم الاتفاق مع موسكو على توريد القمح والبنزين والديزل وغاز البترول المُسال، مما أتاح لروسيا إيجاد سوق لنفطها الخاضع للعقوبات، وأتاح لأفغانستان منتجات الغذاء والطاقة التي تشتد الحاجة إليها، وبالتالي ضعُف تأثير الضغوط الدولية عليها.
كذلك وقعت أفغانستان وإيران عديداً من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية للمساعدة في تسهيل تدفق البضائع، ووصل حجم التبادل التجاري الثنائي نحو 700 مليون دولار خلال الأشهر الأولى من عام 2023. وبلغت إيرادات صادرات الفواكه المجففة خلال عام واحد، نصف مليار دولار، معظمها ذهبت إلى الهند والصين والمملكة العربية السعودية والإمارات وألمانيا وتركيا وغيرها.
لكن طالبان الجديدة ولت ظهرها لباكستان، فبعد أن زادت الصادرات الأفغانية إليها بشكل حاد بعد وصولها للحكم، تحولت التجارة بشكل يصل إلى 70% من باكستان إلى إيران ودول آسيا الوسطى خلال الفترة الأخيرة، وتوترت العلاقات بين الحليفين السابقين، ووصلت للحضيض، ووقعت اشتباكات حدودية بينهما.
فمنذ الإطاحة برئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان الذي ينتمي إلى عرق البلوش كمعظم عناصر طالبان، ساءت العلاقات الثنائية لدرجة أن الحكومة الباكستانية طردت اللاجئين الأفغان وأغلقت المعابر الرئيسية مع كابل، مما أثر على الوضع المعيشي والاقتصادي في كلا البلدين.
ربما لا يوجد شيء يمكن أن يدفع بحركة متشددة نحو الاعتدال مثلما يفعل ضغط الواقع وتحمل المسئوليات الفعلية في الميدان، وقد انخرطت الحركة في أعباء الحكم الإداري ومشاكله، فأعلنت عفواً عاماً عن كل من قاتلها لتتجنب تكرار تجربة تحالف الشمال؛ إذ أمضت سنواتها الخمس في الحكم بين عامي 1996 و2001، في قتال أعدائها المتحالفين.
واليوم تقود طالبان جهازاً بيروقراطياً به أكثر من 830 ألف شخص، معظمهم -قرابة 500 ألف- من موظفي الحكومة السابقة، منهم المسئولون والمهندسون والطيارون والمدرسون وأساتذة الجامعات الذين لا يزالون يواصلون أعمالهم، بينما تغيرت المناصب القيادية كالمديرين والوزراء.
وخلال وجود الاحتلال الأمريكي كانت طالبان تتعاون مع إيران لتفجير السدود التي تبنيها الحكومة العميلة، لكنها اليوم تتصرف بصفتها حكومة وتبني وتُشغِل السدود، مثل سد كمال خان الذي تعترض عليه إيران بشدة، لأنه يُنقص من وارداتها المائية، لكنه يوفر الكهرباء وري الأراضي الزراعية في أفغانستان، ويخزن 52 مليون متر مكعب من المياه.
وبعد حظر زراعة الخشخاش الذي يُنتَج منه الأفيون، شجعت الحركة المزارعين على زراعة القمح والخضراوات والفواكه كبدائل للمخدرات. ودفعت رواتب الموظفين التي لم تُسلَّم منذ شهور، وجمعت نحو 17 ألف متسول من مدينة كابول وحدها، وتم تسجيلهم لتمييز المحتاج من المحتال، ورصدت رواتب لفقرائهم، وبرنامج تعليمي لأطفالهم، وأخذ بصمات غير المحتاجين وتحذيرهم من التسول.
كذلك ورثت الحركة من فترة الاحتلال، من ثلاثة إلى خمسة ملايين مدمن للمخدرات، مليون منهم من النساء والأطفال، فنظمت حملة لجمعهم من الطرقات ومن تحت الجسور، وبدأت في تأهيلهم.
تغير سلوك طالبان عن فترتها الأولى عندما كانت تتمتع باعتراف ثلاث دول فقط، باكستان والسعودية والإمارات، واليوم تحاول الحركة مد الجسور مع الجميع إن استطاعت. ولم يكن منطقياً أن تتخلى الحركة عن نهجها الديني عندما تصل للحكم، فحتى دستور 2004 الذي وُضع في وجود الاحتلال نص على ضرورة عدم تعارض أي قانون مع الدين الإسلامي، بالتالي لم يكن متوقعاً أبداً من طالبان أن تتصرف بعكس ذلك.
لكن تغيُّر السلوك العملي بدرجة ملحوظة يجعلنا أمام نسخة معدلة من طالبان الأولى، لكنها ليست بعيدة عنها كثيراً. وربما يزداد هذا التغير بمرور الأيام وانخراطها في المسئولية وحصولها على الاعتراف الدولي.